تاسعاً: أنه بعد أن انقسمت الأمة إلى دويلات، وهوت راية الخلافة الجامعة لهم، أصبحت كل طائفة سواءً كانت دولة أو جماعة تمثل نفسها، وتستقل بذمتها وبموقفها حباً أو بغضاً، حرباً أو سلماً، عهداً أو نبذاً، فدويلة - كـالبحرين مثلاً - لها سياسة تخالف مصر أو السعودية، وربما كان عدوها صديقاً لهؤلاء أو العكس، وقد تُعَاهِدُ أمريكا أو غيرَها، وقد تُنَابِذُها دون أن يكون لغيرها علاقة بذلك، وكذلك الجماعات فكل جماعة حاربها عدو وحاربته ونبذت إليه على سواء فلا عهد بينها وبينه وإن لم يكن الحال كذلك بينه وبين سائر دول المسلمين وجماعاتهم، وهي وحدها تتحمل مسؤولية عهدها أو حربها وربحها أو خسارتها، وقد لا يجب على غيرها من المسلمين نصرتها، لكن لا يجوز لهم قطعاً نصرة الكافر عليها!!
  1. فوائد من قصة أبي بصير

    وحادثة أبي بصير سابقة يمكن للفقهاء أن يستنبطوا منها، وأن يفرعوا على ذلك ما شاء الله أن يستنبطوا ويفرعوا، وموجز قصة أبي بصير أن النبي صلى الله عليه وسلم عاهد قريشاً يوم الحديبية على أن يرد إليهم من أسلم منهم وقدم إليه؛ وتكملة القصة من الصحيح:
    {فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا : العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنـزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداًَ، فاستله الآخر فقال : أجل والله إنه لجيد، لقد جربتُ به ثم جربت به، ثم جربت به.
    فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه : لقد رأى هذا ذعراً، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قُتل والله صاحبي وإني لمقتول. فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد. فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم؛ فخرج حتى أتى سيف البحر. قال وينقلب منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بـأبي بصير، فجعل لا يخرج رجل من قريش قد أسلم إلا لحق بـأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم...
    } ونستنتج من هذا:
    1)            أن المقتول من المشركين كان رسولاً والرسل لا تقتل كما هو ثابت معلوم، ومع ذلك لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بصير قتله ولا أمر فيه بقود ولا دية، وصدّق أبا بصير في قوله في الرواية الأخرى {يا رسول الله ليس بيني وبينهم عهد ولا عقد} فكان ذلك إقراراً لـه منه على ما فعل، وأن له ذمة مستقلة عن ذمة المسلمين، وإذا أهدر دم الرسول فغيره أولى.(الفتح 5/412).
    2)            أن النبي صلى الله عليه وسلم حرض المسلمين على اللحاق بأبي بصير بقوله: { ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد } وفي الرواية الأخرى: {لو كان له رجال} فزاد على إقراره تحريض غيره للحاق به.
    يقول ابن القيم رحمه الله في الفوائد الفقهية لصلح الحديبية:
    "ومنها: أن المعاهدين إذا عاهدوا الإمام فخرجت منهم طائفة فحاربتهم وغنمت أموالهم ولم يتحيزوا إلى الإمام لم يجب على الإمام دفعهم عنهم ومنعهم منهم، وسواءً دخلوا في عقد الإمام وعهده ودينه، أو لم يدخلوا. والعهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين لم يكن عهداً بين أبي بصير وأصحابه وبينهم. وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين وبعض أهل الذمة من النصارى وغيرهم عهد جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم ويغنم أموالهم إذا لم يكن بينه وبينهم عهد، كما أفتى به شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -قدس الله روحه، في نصارى ملطية وسبيهم مستدلاً بقصة أبي بصير مع المشركين''زاد المعاد 3 / 309.
    وهذا صريح في استقلال كل دولة أو جماعة بذمتها وعهودها، والغرب نفسه يؤمن بهذه الحقيقة، وهي من القواعد المعروفة في القانون الدولي، وإلا لكان البابا في روما مسئولاً عن إرهاب الكاثوليك في إيرلندا، ولكانت ألمانيا مسئولة عن النازيين الجدد ولكانت اليابان مسئولة عن الجيش الأحمر.
  2. معاقبة الاعتداء بالاعتداء

    وفي خصوص الحدث يعلم الأمريكان أن الذي عاداهم وعادوه، ونبذ إليهم ونبذوا إليه هو (تنظيم القاعدة) أو بالأصح (جبهة جهاد الصليبيين) بأعيانهم وخصوصهم، وأن بقية المسلمين لا يأخذون هذا الحكم ولا يدخلون فيه، فحين تحذر أمريكا رعاياها منهم -لا من كل المسلمين- فإنها تعمل بمقتضى العداوة والمنابذة القائمة، وحين اعترف كلنتون بأنه أمر بقتل هؤلاء عن علم وعمد في الهجوم الصاروخي السابق فإن معنى ذلك أن من حق الطرف الآخر أن يفعل المثل، وقد تضرر الملايين في السودان وأفغانستان بسبب قلة الدواء وفرض الحصار غير من مات أثناء الهجوم، وعلى هذا فلا عهود ولا مواثيق بين الطرفين. فقد سقط إذن الحاجز الشرعي عن الانتقام، ولم يبق من حكم شرعي يُرَاعَى في هذه الحالة إلا حكم المعاقبة بالمثل وترك التجاوز في الاعتداء فهنا يقال :-
    هل فِعْلُ هؤلاء بـأمريكا - إذا ثبت - تَجَاوَزَ ما صنعت أمريكا بالمسلمين في كل مكان؟
    ندع الإجابة للقراء ونقول : إن قول الله تعالى: ((فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ))[البقرة:194] قد لا يلزم منه تساوي العدد في القتلى أو المال فهذا أمر لا ينضبط في كل حال، وإنما المقصود مقابلة الفعل بالفعل : القتل بالقتل، والأسر بالأسر، والتخريب بالتخريب.
    أما أنه لا يجوز لهذه الفئة ولا لأي فئة أن تجلب على الأمة عداوة لا قِبَلَ لها بها وتجرها إلى معركة غير متكافئة لم تستعد لها الأمة ولم تتوقعها، فهذا ما نرفع به الصوت ولا نخافت، لكن إذا أبت تلك الفئة إلا الاستبداد بالرأي وفعلت ما عنّ لها بلا مشورة ولا مراعاة مصلحة، فإننا حينئذٍ سنكون نحن الأبرياء ونحن الضحايا لانتقام العدو الغاشم، وهذا ما سيقع للأفغان وغيرهم، فهم الأبرياء وليس من سقط من العدو!!
    وليس الحل أن نقف مع العدو عليها، فهذا حرام في كل حال، ولكنه في التحاور معها في قضايا المصالح والمفاسد، وبيان أخطائها ولو أدى ذلك إلى هجرها والتنفير منها.
    وعلى كل حال فذلك شأن داخلي بين المسلمين ولا يجوز إحالته إلى دوائر الكفر التي تتربص بالمسلمين -كلهم- الدوائر، وتوسيعه ليصبح حملة عالمية يكون بعض المسلمين مستخدمين فيها على بعض.